الأطفال ليسوا ضعفاء كما تظنون، ولا يقضون حياتهم في اللهو واللعب فقط، فهم يستطيعون فعل الكثير من أجل المجتمع والمستقبل، خصوصاً أولئك الأطفال الذين ولدوا في الحرب، فكم من الأطفال في وقتنا الحالي أصبحوا مسؤولين عن أسرهم! وكم من الأطفال أضحوا بعيدين عن أهلهم من أجل معيشتهم! وكم من طفل مات أبويه وأصبح يتيما ومسؤولاً عن إخوته الصغار! وكم من الأطفال يحملون السلاح ويقاتلون رغما عنهم! فلأطفال في هذا الزمن ليسوا أطفالا، بل رجالا ومقاتلين ومسؤولين عن أسرهم أيضاً.
سأروي لكم قصة طفولتي، أنا الطفل الذي لم يعرف معنىً للطفولة في حياته، لنني لم أيأس من الحياة ولو للحظة واحدة، رغم كل ظروفي المادية والمعنوية والاجتماعية الصعبة. أنا طفل ولدت في قرية صغيرة في ريف القامشلي (خربة الذيب)، لا اعرف معنىً اللعب، ولا اعرف معنىً للفرح، بل لا اعرف معنى الطفولة. وكأنني ولدت في الزمن الخاطئ.
صرت شابًا، أجبرتني الحياة والحرب على العمل لإعالة أسرتي في سن الثانية عشرة من عمري، وكنت أدرس في الوقت ذاته.
ضحّيت بفرحة طفولتي لأجل أبي وأمي وأخوتي، لأن ابي الذي كان يؤمِّن لنا كل ما نحتاجه، أصبح عاطلًا عن العمل بسبب ظروف الحرب في سوريا، ولدي اخوان معاقان يتوجب على تأمين كل ما يلزمهم، ولدي أخ ثالث فقدناه في الحرب، ولا يعرف أحد شيئًا عنه، فأنا الوحيد الذي يتوجب عليه تقديم العون للعائلة، رغم كوني الأصغر سنا بين الجميع.
كان يتوجب على أن أخفي دموعي وحزني، وأن أوأد طفولتي دومًا، لأجل أبي وأمي وأخوتي، وحتى لا أدعهم يحتاجون لأحد.
عملت في جميع المجالات المتاحة، وكنت اذهب الى المدرسة في الصباح واعمل في الظهيرة، وادرس في الليل.
هكذا كانت حياتي، ونسيت أنني طفل وكان حلمي الوحيد أن أرسم البسمة على وجوه أفراد عائلتي، وحققت ذلك رغم كل التعب والمشقة.
كنت فرحًا، لكن الحرب والزمن لم يَدَعوني أعيش حتى هكذا حياة، فأجبرتني الحرب على اتخاذ قراري بمغادرة البلد وترك عائلتي في وضعهم الصعب، فغادرت وأنا في سن الخامسة عشرة.
قررت أن اذهب إلى تركيا وكلكم تعرفون بأنه ليس لنا سوى الطرق غير الشرعية للسفر.
سلكت الطرق التي لا نهاية لها. تلك الطرق التي لا تدري إن كنت ستموت أو تعيش أثناء المرور بها. فكانت لي ثلاثة محاولات فاشلة للعبور إلى تركيا، ثلاثة محاولات مشيًا على الأقدام، حيث كنا نمشي ما بين ٦ إلى ٨ ساعات يومياً، لكن الجنود الأتراك يمسكون بنا في كل مرة، ويستخدمون القوة ضدنا، ويقومون بضربنا، ومن ثم يتم ترحيلنا مرة أخرى إلى سوريا.
في المرة الرابعة تمكنت من دخول تركيا، لكن تركيا لم تكن نهاية الطريق، كان علي أن أواصل إلى أوروبا أو اليونان، حيث قمت مرة أخرى بمحاولتين للعبور مشيًا على الأقدام، لكن الجنود اليونانيون كانوا يقبضون علينا ويرحلونا مرة أخرى إلى تركيا.
نمنا في الغابات واكلنا حتى الحشرات، وكم قضينا من الليالي في البرد القارس وتحت المطر! كنا نختبئ كالجرذان في الحفر وتحت الأشجار. كنا كالبضاعة يتفاوض المهربين عليها قائلين أحدهم: “كم تأخذ على النفر؟” ويتاجرون بأرواح البشر كالمتاجرة بالدواب.
في النهاية لم يتبق أمامي سوى قارب الموت، فقررت أن أركب قارب الموت لأصل إلى اليونان، ومهما قلت لكم عن هذا القارب، فلن تشعروا بذلك الخوف والرعب الذي مررت به، لأن من يسمع عن مثل هذه التجربة، ليس كمن يمر بها لحظة بلحظة، ففي ليلة من ليالي البرد القارص، وقد كان الوقت منتصف الليل، وكنا حوالي 25 شخص راكبين على متن قارب صغير، لا يتجاوز طوله الأربعة أمتار وكان بيننا نساء وأطفال ورجال طاعنين في السن، ركبنا ذلك القارب، ولم نكن نفكر لحظتها لا بأروبا ولا بالحياة السعيدة، بل بالموت فقط لا غير.
انطلق القارب بنا في عرض البحر، لم تكن ساعتين أو ثلاث كافية لعبوره، استمرت رحلتنا في البحر ٦ ساعات متواصلة، وكنا طوال الوقت في عرض البحر لا نرى سوى مياه البحر المظلم والقاتل، ذلك البحر الذي سلب أرواح الآلاف من الناس ممن سبقونا لعبوره.
كنت أمسك بيدي طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها الثلاث سنوات، ولن أنسى كلماتها حين قالت لي: “عمو انا خايفة” لا أدري كيف عرفت الخوف!! قلت لها: “أغمضي عينيك يا صغيرتي، وادعي الله ألا يصيبنا اي مكروه حتى الساعة السادسة صباحًا”. لحسن الحظ وصلنا الى اليونان بخير وسلامة بعد ٦ ساعات من السفر المتواصل في البحر القاتل.
لكن الطريق لا ينتهي في اليونان، أحب اليونان كثيرًا، ولكن يؤسفني أن أقول بأني لا أستطيع العيش في اليونان وعائلتي في وضعهم الصعب، والحياة في اليونان أصبح صعبة جدًا.
تلك هي حياة أطفال سوريا وافغانستان وباكستان والعراق وجميع الدول الذي تعاني من الحروب. نحن اطفال الحرب لم نعرف السلام ولم نعش الطفولة. قد نكون صغارًا في السن، لكن الحرب جعلتنا نكون ونبدو أكبر من عمرنا.
اتمنى أن تلحق بي عائلتي إلى هنا، وأن يلتئم شمل كل طفل بعيد عن أهله قريبًا.
Add comment